(في الثناء علي الموناليزا)

فاروق يوسف
(العراق/السويد)

1

الموناليزاشعبوية لوحة دافنشي كانت تقف وراء نفوري منها وعزوفي عن رؤيتها مباشرة أو الوقوف أمامها متعبدا ومأخوذا مثلما تفعل الملايين من البشر. لقد اجتزت الممر الذي يصل إلى القاعة التي تضمها في متحف اللوفر مرات عديدة من غير أن التفت اليها. لم أكن أكرهها، بل كنت اشعر بعناد داخلي يدفعني إلي النأي بنفسي بعيدا عن موقع الضحية المصابة بهلع الشائعة. لا أريد أن أراها وأنا مسلوب الإرادة. هناك كذب كثير افقد اللوحة صدقها. فبعد أن تحولت إلى أيقونة صارت رؤيتها نوعا من يقين صارم لا يجلب إلا خيالا مقيدا بشروط واقعيته. صار الناس ينظرون إليها من جهة كونها حلا لخيار بصري مستقل عن النظر. حين سرقت وأعيدت لم تهتز هيبتها. لم يتساءل أحد ما: هل عادت اللوحة الأصلية إلى مكانها حقا أم احتلت لوحة مزيفة مكانها؟ الثقة باللوفر فوق شبهات من هذا النوع. ثم لا أحد من المتيمين بالموناليزا يهمه مثل هذا السؤال. هناك قدر خفي هيأ لهذه اللوحة، دون سواها من لوحات الرسام الايطالي مكانة هي أشبه بالمزار المقدس. فكرة معتوهة تجعل الميزان كله مختلا: اللوفر كله في كفة والموناليزا في الكفة الأخرى. في هذه الحالة لا شيء يجعل الكذب بغيضا، بل يصبح الكذب حقا مشروعا. هناك بشر لا تكتمل بهجتهم بباريس إلا بالنظر إلي الموناليزا. من أجل هذه الفكرة الساذجة يتخلي اللوفر عن صرامته فيستجيب لرغبة سياحية ملساء: يصنع خريطة للذهاب مباشرة إلى الموقع المقدس. منذ الخطوة الأولي هناك إشارات تقود قدميك إليها. صورها تنتشر في الأروقة لتدلك اليها. لقد رأيت بشرا لم يكن يهمهم سوي متابعة السهم الذي يشير إلي المكان الذي توجد فيه. فرحهم لا يوصف وهم يجدون الإشارة التي تهديهم إليها. عيونهم لا تري، أقدامهم وحدها تهذي. طقس الذهاب إلي الموناليزا صنعته آلة إعلامية ماكرة تعرف جيدا أن البشر في حاجة مستمرة إلى حج، هو في النهاية نوع من استعادة الرضا.

2

ليليا كورنيل (مصورة أمريكية من مواليد عام 1978) تكتب يومياتها بالصور. مترفة وسعيدة تصف جسدها لكن بخيلاء متمرس في معرفة ما يجود به الخيال البشري من اشراقات. في واحدة من أروع صورها تنطبق يداها علي يدي الموناليزا. تحتل يداها المكان عينه الذي تحتله يدا الموناليزا. صورة تذكر بما تفعله (سندي شيرمان) وهي تلتقط صورا معاصرة تستخرجها من عصر النهضة. يدا كورنيل بكل شغفهما بالممكن الجمالي الذي أعيش فتنة عطره جعلتا الموناليزا خيارا بصريا ممكنا. لقد تساءلت يومها وأنا أنظر إلى صورة كورنيل: لقد اكتشفت هذه المصورة سر حياة بديلة ليديها في يدي الموناليزا فلم لا يكتشف الآخرون أسرارا أخري؟ قد تكون كورنيل هي الأخرى ضحية شائعة إعلامية. ولكن ما انتهت إليه كان مدهشا. صورتها توازي الموناليزا من حيث القيمة الجمالية.

3

في كل زياراتي السابقة إلي باريس لم يكن لدي أي اهتمام بالموناليزا، بل أنني لا أتذكرها أبدا حين أكون هناك. هذه المرة كانت رؤيتها واحدة من أهم أهداف سفري. لا لشيء إلا لأنني اصطحبت ابنتي الصغيرة معي إلى هناك وهي التي صارت تحلم باستمرار برؤية تلك السيدة، سجينة اللوفر. لم تكن باريس بالنسبة إليها إلا منفي لأسطورة عائمة في غموضها. وهكذا دخلت إلى اللوفر هذه المرة كما يفعل المأخذون بسحر الموناليزا، متبعا لهاث خطواتي، سهما بعد سهم، لأصل أخيرا إلي القاعة التي تضم جسد المعبودة. ولم انظر إلا إلي يديها. تأثير كورنيل لم يفارقني، كما لو أنني صرت أري يديها عالقتين بجسد السيدة التي رسمها ليوناردو. لم أفكر بقدسية الأصل. ذهبت أفكاري مباشرة إلي الحياة: حياة لم نعشها حقا، هاهي امرأة تستأنفها في كل لحظة نظر. من حق كل إنسان يقف قبالتها أن يقول: الموناليزا هي أنا مثلما كان فلوبير يقول: مدام بوفاري هي أنا. الموناليزا هي كل أنا مقابلة ولم يكن ليوناردو إلا منفذا لفكرة الهام خيالية، صارت بمثابة نبوءة. هناك أوهام كثيرة في إمكانها أن تجلب أسئلة صامتة تذهب مباشرة إلى عيني السيدة المبجلة. لقد تأملتها وأنا في حالة امتناع عن السقوط في سحرها فأحببتها. وديعة جمال لم يستنفد بعد وخزانة لغز أبدي. بالنسبة لابنتي كان اللوفر في مكان والموناليزا في مكان آخر. ما أن انتهت من زيارة سيدتها الغامضة حتى شعرت أن المهمة قد انتهت.

4

حين تذكر الموناليزا فان الناس تتحدث عن أشياء غالبا ما تكون غير موجودة. حكايات تصل الغرائبي بالبديهي وتفعل العكس أيضا. أطنان من الورق كتبت من أجلها من غير أن تذهب مباشرة إلى السؤال الحائر: لم هذه اللوحة دون سواها؟ سخرية الدادائيين منها وهبتها قوة رمزية مضافة بدلا من أن تزيح الهالة عنها. المعجزة التي اجترحتها الموناليزا تكمن في أنها وضعت طعاما نخبويا علي مائدة العامة. حراسها اليقظون هم أشبه بكهنة المعبد الذين يحرصون علي أن لا تمس الأكف جسد الصنم الذي ترعاه أفكارهم. الأسطورة في حاجة مستمرة إلي من وما يغذيها. لا يواجه الجمهور لوحة تعيش عزلتها بقدر ما يشعر أنه محاط بأشباح امرأة مجهولة تتكاثر مثلما يحدث في المرايا. الموناليزا بالنسبة للكثيرين هي كون من الأسئلة التي تذهب بتفاصيل جسدها إلي قناعات مجردة حتى من الإيهام البصري. ذلك لان لوحة دافنشي لا تقول شيئا يشذ عن الوصف التقليدي. صورة امرأة نفذتها يدا عبقري ولا شيء آخر. ولكن للعامة رأي آخر كما يبدو.
القادمون من أصقاع متباعدة من الأرض رغبة في رؤيتها لا يهمهم ما الذي فعله دافنشي لتحقق رائعته تأثيرا مثاليا، بقدر ما يحصون نظراتهم المشفقة والمتحسرة لفراق السيدة. ليست الموناليزا كائنا طاردا ولكن التلصص عليها لوقت طويل هو أمر مربك بل ومزعج. لذلك يرضي المشاهد وهو يبتعد عنها من غير أن يدير لها ظهـره بجملة من نوع: لقد رأيتها، كانت أجمل من صورتها في الخيال.
كل مشاهد متقهقر سيضيف إلي رصيد الموناليزا جملة تزيد من عزلتها عن المتاح لتسمو أكثر في فضاء المتخيل الضروري لكل عمل فني.
جمل ينعقد بعضها بالبعض الآخر لتشكل سياجا وهميا تقيم الأسطورة وراءه. تستحق الموناليزا أن تري، كونها عملا فنيا طاعنا في كرامته لا أن تبجل في صفتها صنما تسيل من حوله أكاذيب الكهنة.

القدس العربي
2006/07/08


إقرأ أيضاً:

أقرأ أيضاً: