هيمت الطالع من حديقة الامبراطور بزهرة لا وجود لها

فاروق يوسف
(العراق/السويد)

فاروق يوسفمع الفجر يحضر الجمال عاريا من مادته. هكذا مبهما وعميقا وشفافا وأيضا لا يلمس لكنه ينزلق من خلال العين إلى الرئة. يزعم هيمت (الرسام العراقي المقيم في باريس منذ عقدين) أنه لم ينم الليلة الماضية في انتظار الفجر.

جملته الناقصة لا تخفي ما حذف منها. لم يقل لي أنه كان في انتظار الرسم. إنه يتنفس الآن أفضل كما لو أن أوراقه الكثيرة التي افترشت الأرض تفضحه. هي فضيحته الصامتة. نمت في السابعة صباحا وحين استيقظت فاجأني سحرها. مفتونا وخائفا مثل طفل يلتفت إلى الباب خشية أن يعود ذلك الرسام الذي ترك رسومه في المرسم الصغير واختفى. يعود هيمت ليعترف: الفجر هو احسن اوقات الرسم. منذ أن صار ذلك القرين يزوره صار يرسم مثل الشعراء. (زهور من السماء) معرضه الذي أهداه إلى روح صديقه الشاعر الياباني كان نقطة التحول الكبرى في مسيرته الفنية. ربما كان هيمت يحلم دائما في أن يكون يابانيا. غير أن هذا الرسام نسي منذ زمن بعيد كيف يمكنه أن يكون جزءاً من الجمع المزهو بقطيعيته. ذهب مؤخرا إلى لندن من أجل أن يرى كيف يمحو الأمريكي سي تومبلي أوراق الزهرة من أجل أن يرسمها. ولكنه عاد إلى باريس منبهرا بتومبلي النحات، ذلك الذي يصف من خلال المجسدات هيمنته الروحية على الأشياء وهي تتخلى طوعا عن بلاغتها. ليست الزهرة نوعا من الفطرة. يستهل هيمت الآن لوحاته بالمحو، بالشكل الذي ينفي ذاته. مثل (الليل الصيفي) قصيدة أكبر شعراء فرنسا الأحياء ايف بونوفوا التي رسمها هيمت مؤخرا في كتاب فني تحل رسومه كما لو أنها الضيفة التي لم تترك لها أثرا خارج البيت. قرب الموقد تجلس مكتفية بلغز وجودها. بداية عام 1998 احتضنت المدرسة المستنصرية (ما تبقى في بغداد من العصر العباسي الذهبي) دفاتره الشعرية، وكان ذلك المعرض حدثا رائدا من نوعه. فهي المرة الأولى التي يقام فيها معرض للدفاتر الفنية في بغداد وهي المرة الأولى والأخيرة التي يحتضن فيها ذلك الأثر الحضاري الرفيع معرضا فنيا. يومها كتبت إليه: الآن يمكننا أن نقول شيئا عن الغد. كنت أفكر بغدنا لا بغده. حين أنظر الآن إلى دفاتره التي يرثي من خلالها شارع المتنبي في بغداد أشعر أن غدنا لم يهبه إلا الفتات الممزق وشعورا بالهلاك. هوذا غدنا لا يهبك إلا القدرة على الرثاء والضنى. خلال تشرين الثاني (نوفمبر) من هذه السنة ستعرض تلك الدفاتر لأول مرة في تكساس، ضمن معرض نوعي عراقي يرعاه أحد المتاحف هناك. هي رسالته الى العالم، غير أنها الرسالة التي يتمنى لو أنه أعفي من كتابتها لو كان القدر أكثر شفقة بوطنه. 2 هناك شيء من ماتيس يعلق بهيمت. ربما بدت خلاصات الرسام الفرنسي الزخرفية جلية في محاولة هيمت اقتناص لحظة ترف بصري ممكنة ليعوض من خلالها خساراته الروحية الفادحة. غير أن الرسام الذي يخترق يوميا في ذهابه إلى المترو وإيابه منه سوقا أفريقية تقع قريبا من بيته لا بد أن تعلق بعينيه أناقة جسد لا يزال يقيم بحرية في الغابات. في الهواء أصباغ كما لو أننا ننزلق حائرين داخل صحن صيني. لا يقتفي هيمت أثر طبيعة بعينها. إنه يستخرج لقى ثقافية من قلب تلك الطبيعة بيسر. في المتاهة نفسها يقيم الجميع:

ملائكة وشياطين، نبلاء وملعونون، ملهمون ومصادر إلهام. يبدأ مرسم هيمت من تلك السوق التي تتسع كلما ارتقت قدما الرسام درجة من السلم الخشبي في اتجاه الطابق الثاني من العمارة التي يقيم فيها. حين يرسم يتذكر ان هناك شيئا ما من تلك السوق يتسلل الى رسومه فيمحوه، ولكنه لا يبالي بالأبخرة التي تسللت من تلك السوق إلى جسده. يتركها تمتزج بخفة بأصباغه. وإذ تقترح تلك الأبخرة عليه سعة مضافة فإنه يتنفسها مرة أخرى بسعادة. برئتي شاعر ياباني يتنفس هواء أفريقيا. هيمت هو ابن مكان لا وجود له. لا ينفع تصفح أطلس في التعرف على ذلك المكان. فمثلما كان هيمت دائما ممتنعا عن الوصف فان المكان الذي يقيم فيه هو نوع من المتاهة. هل لديك فكرة عن مزيد من التقشف؟ يسألني. فيما كنت أفكر بتوريطه بعاداتي الغذائية الباذخة. أعرف أنه يرسم أفضل حين يجوع. الزهرة تؤكل هي الأخرى، لذلك يلتهمها من خلال رسومه. ولكنه يغني لها بعينيه.

فمه لا يسليه. دائما لديه فكرة خيالية عما يلتهمه. قرب محطة الشرق بباريس قادني إلى مطعم صيني كان يقدم وجبة غذائية مفتوحة بسعر ثابت. مسحورا بخيال الفكرة صار يردد: ليت العراق معنا. كنا نأكل فيما تلتقط عيناه المشاهد الآسرة التي تؤكد أن الطعام ممكن في كل لحظة. قال لي:

ليت الرسم كذلك. وأنا أعرف أن الرسم لا يخذله ولم يتخل عنه يوما ما. ذلك القرين غالبا ما يزوره ليترك رسوما طازجة على أرض مرسمه. الفجر هو أحسن الأوقات للرسم. يقول لي ليعيدني إلى الثقة بما رأيته في وقت سابق من ذلك النهار. لن يكون الليل سوى فرصة للنظر المستعاد. 3 لديه مفرداته التي يستأنف من خلالها حياته الهائمة. وهي حياة يصر على هامشيتها. ذلك الرسام اللامنتمي يصر على أن تكون عينه المفتوحة على الطبيعة هي مصدر كل رجاء. هناك قدر هائل من التشظي يسعى الرسام إلى الاقتران به والتوزع بين رؤاه. ليتنا نكون هناك. يقول لي. ولكن أين؟ ما يراه بين لحظة واخرى هو نوع من خيال المسافة الذي لا يعني سوى أن لحظة بجناحي شاعر قد مرت بنا مسرعة. صار هيمت يرسم مثل الشعراء.

الصورة التي يراها تصنع صورته التي تنفي وجودها الواقعي. كائن عدمي وظيفته النسيان. لديه وظائف أخرى طبعا. غير أنه يتمنى لو أنه ظل مخلصا لوظيفته الأصلية: راع لخراف لا تأكل إلا زهور حديقة الامبراطور. رسوم هيمت تجعلنا نحدق بعمق في عيني ذلك الامبراطور الدامعتين: هناك متسع من الأرض لم يبلغه الشعر بعد، هناك فرصة للضياع مضافة إذن.

هيمت يقيم في ذلك الوادي الخصيب حقا. يترك قرينه أحيانا في السوق ليذهب إلى مرسمه وحده ليستحضر خيالات ذلك القرين المعذب. هو ابن عزلته وهو صانعها في الوقت نفسه. أنا هنا من أجل أن أكون هناك. يقول لي ولا أعرف ما معنى ذلك الهناك. ربما يقيس المسافة بخطواته الواقعية بين السوق ومرسمه، ربما يقيسها بفكرته عن المعنى الذي يرتجله وهو في حالة تيه دائم. رسام حديقة الامبراطور يعود يوميا من نزهته اليومية بزهرة لا وجود لها. شاعر وناقد من العراق يقيم في السويد .

القدس العربي- 29/08/2008

أقرأ أيضاً: