فاروق يوسف

فاروق إنْ رسم سامر الطبَّاع أشجارا، فلن تكون سوى أشجاره الخاصة. الكائنات التي تشبه منحوتاته. تلك الأشجار هي مفاجأته غير المتوقعة في معرضه الجديد (قاعة نبض ـ عمان). الرسام والنحات الاردني وإنْ أظهر شغفا لافتا بالقوة الحيوية التي تنطوي عليها المادة في الطبيعة، فإن الأشكال التي تظهر من خلالها تلك المادة لم تستهوه.
لذلك كان يميل دائما إلى التقليل من عبء المشهد المرئي، بالرغم من أنه كان يستلهم في استمرار أشكاله المتقشفة من لحظة تحول قد تمر عابرة (مثل رشقة مطر) كما يقول. هناك يقيم الهامه، في تداع بصري لا يبلغ اكتماله إلا من خلال جسد العمل الفني. معرضه الحالي يلقي نظرة شاسعة على طبيعة علاقة الطباع بالمواد المختلفة (الرخام، الخشب، الحجر، المعدن، القار والغرافيت).
في هذا المعرض يبدو الطباع، نحاتا ورساما كما هو دائما، صارما في تقليليته، جادا في نزعته المادية، محترف صناعة أفكار ذهنية لا تسمح للعاطفة في التمدد بين ثناياها. كانت عجلته (وهو النصب الذي يحتل مكانا بارزا في العاصمة الاردنية) مثار جدل واسع، من حيث قيمتها التمثيلية على مستوى التفاعل البصري. لا بسبب تجريدية ذلك العمل المثير للإستفهام، بل لأنه لا يطرح على المشاهد قيما انفعالية مشتركة. إنه مثل باقي أعمال الفنان قائم في لحظة استقلاله، مشدود إلى بداهته، باعتباره شيئا مضافا.

وكما أرى فإن فهم الطباع لوظيفة العمل الفني تطرح علينا اشكالية من نوع مختلف. فهذا الفنان الذي قرر منذ بدايته أن يقيم في المناطق المجاورة للمناطق المأهولة بالتشكيل العربي، نحتا ورسما، قد اجتهد كثيرا في التصدي لكل نزعة تعبيرية (أدبية أو عاطفية) يمكنها أن تتسلل بشكل خفي إلى الأشكال التي كان يستخرجها من لحظة تصادم حقيقي بين الشيء وبين انعكاساته البصرية التي لا تعني بالضرورة استعادة لصورة ذلك الشيء. يتحقق الطباع من وجود تلك الانعكسات من خلال مرآة مضادة وغير محايدة، لا ترى في الشيء سوى الخطوة التي تم تجاوزها. بهذا المعنى فإن عين الطبَّاع تحرص على القبض على الشيء، لكن مبعثرا بين صوره التي تمهد لولادة أشكال جديدة. لهذا صارت الوحدات التي يخترعها الطباع لا تذكر بأصولها. ربما لأن الفنان دأب على التركيز على مادة الشيء لا على صورته. وصار بعد ذلك يؤثث تلك المادة بما يراه مناسبا لها من أشكال التصوير.
يجهد سامر الطباع (ولد عام 1945) على أن لا يتواطأ مع المتلقي من أجل التأسيس لمعنى بعينه، يكون العمل الفني فضاءه التصويري. وهو ما يكشف عن نزعة صفائية، لا تحترم الشكل فحسب، بل تسعى أيضا إلى تنقيته من أية شائبة يمكنها أن تشي بانتمائه إلى أي نوع من التجهيز الاجتماعي والثقافي.
العمل الفني بالنسبة للطباع هو واقعة أصيلة، يشير إلى ضرورتها الفراغ الذي تملأه بتأثيراتها البصرية. لن يكون في إمكان أحد من المتلقين أن يقول: 'لقد رأيت هذا الشكل في الطبيعة' ربما يحق له أن يقول: 'لقد حلمته' وهذا هو ما يفعله الفنان تماما. إنه يحلم أشكاله، ولكنه أيضا يهيئ لها مادتها.
يستغرق طويلا في البحث عن مصادر حيوية تلك المادة. قوتها المشرعة في اتجاهين متعاكسين: التعبير عن أحوالها الخالصة والتلويح بما توحي به على مستوى رمزي. وكما هو حال عجلته فإن أعماله الأخرى لا يمكنها أن تخضع لمنظور رمزي أبدا. ذلك لأن هذا الفنان لا يفرط بفرصة السؤال الجوهري الذي تطرحه المادة وهي تسعى الى التعبير عن أحوالها. وهو سؤال يدفعنا عميقا في اتجاه محاولة التعرف إلى القوة التي تختزنها المادة وهي تواجه عالما ينهار من حولها.
ألهذا كانت أشجاره تعبيرا عن شغف متخيل؟

أعتقد أن الفنان أراد من خلال تلك الأشجار أن يلتفت بنا إلى البرية، هناك حيث تقيم معظم أفكاره الخيالية. فما من شيء في أعماله يذكر بالمدينة. ولا أجازف بالقول أن هناك حسا بدائيا، يذكر بعوالم النحات الروماني برانكوزي يظهر بين حين وآخر، على الرغم من أن الطباع يصر على اناقة منحوتاته بطريقة لافتة. ومع ذلك فإن حرصه على أن تكون منحوتاته أنيقه لا يتعارض مع حس عميق بأن الحياة لم تتشكل بعد.
ذلك الاعتراف بقدر حميميته فإنه يكتسب قوته النغمية من استرساله في التشبث بطاقة وعي لم يعد يرى لمجسماته الذهنية تجسيدا في الواقع. لا اقصد الاشارة إلى فراق مع الواقعي، فذلك أمر يمكننا التحقق منه بيسر، ولكنني اشير إلى فراق مع الزمن.
أعمال سامر الطباع تقيم خارج الزمن. إنها تخترع زمنها الخاص. الزمن المناسب لكل هذا التعفف، الذي يساوي بين الشقاء والسعادة. وبهذا يكون سامر الطباع قد أضفى على أعماله طابعا لغزيا، لن يكون متوقعا على مستوى نقدي. وكما أرى فان الطباع وقد اختار أن يشتغل في المناطق المجاورة، لم يكن يعنيه أن يكون جزءا من مرحلة فنية بعينها من مراحل التاريخ الفني العربي. وهو ما انعكس بشكل ايجابي على أعماله، حيث صارت لا تكترث بمعيار الزمن.
سامر الطباع مقل في عروضه.
مقل في مشاركته في اللقاءات الفنية الدولية.
مفرط في اكتفائه بما توفره له أعماله الفنية من متعة. كلما عرض يبدو أكثر غموضا. لقد درس علم الاجتماع والانثروبولوجيا من أجل أن يكون فنانا. وهو إذ يجرب قناعاته البصرية، فإنما ليختبر قوة التأويل.

شاعر وناقد من العراق
2012-08-28

أقرأ أيضاً: